البعد الروحي والنفسي للصوم

date: 15.03.2021.

سأل أحد المشاركين في رياضة الصوم في "بيت السلام" Domus Pacis الأب سلاﭬكو: "أيّها الأب سلاﭬكو، أنت تخبرنا أنّ الصوم يساعدنا على إيجاد السلام، لكن عندما أصوم لا أكون مسالمًا، أكون متوتّرًا وغاضبًا من أفراد الأسرة الآخرين، من زوجتي وأولادي. أليس من الأفضل ألَّا نصوم بدلاً من أن نصوم ونتوتّر؟" قال له الأب سلاﭬكو: "الأفضل هو أن نصوم ولا نغضب." ثم أضاف: "لو كان الصائمون فقط هم المتوتّرون لكان عددُ المتوتّرين قليلاً في العالم."

إذًا، ماذا عن الذين لا يصومون ويغضبون وينزعجون ويشتمون؟ ليس الصوم هو ما يجعلنا متوتّرين أو قلقين، ولكنّه يساعدنا على اكتشاف أسباب القلق والغضب.

تعلّمنا ملكة السلام أنّ السلام في خدمة الصوم - كالسلام في قلب الإنسان، ولكن أيضًا في العائلات وفي العالم. "اليوم أيضًا أدعوكم إلى الصلاة والصوم من أجل السلام. كما قلت سابقًا، أكرِّره لكم الآن، صغاري، فقط بالصلاة والصوم حتّى الحروب يمكن إيقافها. السلام هو هبةٌ ثمينة من الله. ابحثوا، وصلّوا وسوف تحصلون عليه." (25 شباط 2003)

          عندما نتحدّث عن السلام، نبدأ من حقيقة أنّ الإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب. كما أنّ يسوع لا يعتقد أنّ الناس لا يحتاجون إلاَّ إلى الطعام الروحي. على العكس، لديه الكثير من التعاطف مع جميع أولئك الذين جاءوا للاستماع إلى خطابه في المكان البعيد. "وفي تلك الأيّام احتشد أيضًا جمعٌ كثير، ولم يكن عندهم ما يأكلون، فدعا تلاميذه وقال لهم: "أُشفق على هذا الجمع، فإنّهم منذ ثلاثة أيّام يلازمونني، وليس عندهم ما يأكلون. وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين، خارت قواهم في الطريق، ومنهم من جاء من مكانٍ بعيد"." (مر 8، 1-3) أيضًا، عندما أحيا ابنة يائيرس، لم ينس يسوع احتياجات جسدها. (مر 5، 43)

بالصوم (التخلّي عن الطعام والشراب) لا نهمل الطعام والشراب! تلك هي عطايا الله! بل نكتشفهما مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة كهديّة!

لكن، بالإضافة إلى الطعام والشراب، يحتاج الإنسان أيضًا إلى طعامٍ روحي، فهو ليس مخلوقًا لهذا العالم فقط. لهذا يقول يسوع: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمةٍ تخرج من فم الله." (مت 4، 4) لذلك، عندما نصوم لا نتوقّف عند المظهر الخارجي ونعتني بالجسد، بل ندخل إلى باطننا ونقلق على صحة الروح.

بسبب العادات والإدمان فينا، لدينا قوّة للأكل والشرب أكثر ممّا نحتاج إليه، لجمع الأشياء التي لا نحتاج إليها أيضًا. من السخف الاعتقاد أنّنا على ما يرام، وأنّنا أحرار ومع ذلك، فقد أصبحنا عبيدًا للعادات والتعلّقات التي تقول لنا: "تحتاج إلى أن تأخذ، تحتاج إلى أن تشرب، تحتاج إلى أن تكون شخصًا ما في عيون الآخرين، تحتاج إلى مشاهدة التلفزيون وإلى أن تأخذ جهازك المحمول، تحتاج إلى امتلاك المزيد والمزيد..." بإدماننا على الأشياء نحن نقول: "خذ قطع البسكويت هذه بعيداً! لا أطيق النظر إليها من دون أن آخذها!"

أين الحل؟ الهروب من الأشياء ومن الناس أو إزالة هذه الأشياء منّا؟ الصوم يعلّمنا أن نتحمّل! فكّر الأب سلاﭬكو: "أولئك الذين يتعلّمون كيف يتعايشون مع الأشياء، يمكنهم العيش مع الناس."

الصوم هو طريق من العبوديّة إلى الحريّة. "أنتم، صغاري، أحرارٌ بأن تختاروا الخير أو الشر. لهذا، أدعوكم إلى الصلاة والصوم." (25 كانون الثاني 2008) إذا تعلّم الإنسان أن يتعايش مع الأشياء بالصوم، ولا يأخذ كلّ ما يُقدّم له، فسيكون قادرًا على العيش، والتحلّي بالصبر مع الناس، حتّى عندما ينزعج أو يغضب... هذه هي الطريقة التي سترتفع بها القوى الداخليّة فينا، لأنّنا نتعلّم كيف نتحلّى بالصبر وننتظر. وهذه القوى الداخليّة بالتحديد - الصبر، الانتظار، عدم أخذ ما نريد، المثابرة على الأمل عندما يكون الأمر صعبًا - هي التي يخسرها إنسان اليوم بسهولة. من خلال إضعاف القوّة الداخليّة، نصبح غير قادرين على التغلّب على الصعوبات التي قد نواجهها في حياتنا، في عائلاتنا، في العمل، كلّما ظهر الصليب ...

أين نرى الخسارة ونقص القوّة الداخليّة؟ "يمكن للمرء أن ييأس بمجرّد أن يكون في وضعٍ صعب، يبدأ الكثيرون بتعاطي المخدرات، لأنّهم يفتقرون إلى القوّة الداخليّة لمقاومتها." (الأب سلاﭬكو ب.)

سواء كانت القوى الروحيّة قويّة أو ضعيفة، فإنّها واضحة. "لن يتزوّج أحد من شخصٍ لا يحبّه. وبالرغم من ذلك، حالات طلاقٍ كثيرة، لماذا؟ ربّما لا يطيقون تَحمُّل شريكهم في نقطةٍ معيّنة. يفتقرون إلى القوّة لتَحمُّل الآخر والمسامحة، هكذا تتفكّك العائلات." (الأب سلاﭬكو ب.)

  إذا تعلّم الإنسان أن يتعايش مع الأشياء بالصوم، وأن لا يلمسها، وأن لا يكون عبداً لها، وأن يصبر حتّى لو لم يكن لديه كلّ شيء، وألاَّ يأخذ ما يشاء، وعندما يشاء، سيكون قادرًا على العيش، على التحلّي بالصبر، حتّى عندما يرى عيوبهم وأخطاءهم، عندما يرى قشّةً في عين شخصٍ آخر ويميل لإخراجها في تلك اللحظات الضعيفة.

يقول سيمون ويل: "يمكن أن تكون تلك الرذيلة والفساد والجريمة في جميع الأوقات تقريبًا تمثّل محاولة الإنسان لابتلاع الجمال، لأكل ما يجب ملاحظته فقط. هذا ما بدأته حوّاء. إذ تسبّبت في سقوط الإنسان، فإنّ العكس تمامًا ضروري لخلاص البشريّة، والنظر إلى الثمرة من دون أكلِها."

يجب أن يكون هذا هو مسار تربية الأولاد والشباب على الصوم. لا يحتاج الأطفال إلى صومٍ مثل الكبار على الخبز والماء، ولكن من الجيّد أن يقول أحد الوالدَين لطفله: "هذه الشوكولاتة لك، لكن اليوم هو الجمعة، فلا تأكلها اليوم، تناولها غدًا." هذه هي الطريقة لتعليم طفلك الصبر والقدرة على الانتظار وعدم إرضاء كلّ رغبةٍ تنشأ فيه.

كان يسوع يطلب من تلاميذه أن يقتنوا ثوبَين فقط، لأنّ ذلك كان ضروريًّا. لكن ليس أكثر من ذلك! بالصوم نتحرّر من جميع القوى ولا نسمح لها أن تحكمنا. "أطفئوا التلفزيون، وضعوا جانبًا كلّ ما لا فائدة لكم منه." (13 شباط 1986) الصوم يقوّي كلمة كفى فينا: كفى إدمان! وبالتالي، فإنّ مساحة الحريّة الداخليّة تتّسع فينا ويمكننا التعامل مع جميع القوى بشكلٍ مختلف ونقول: لست بحاجةٍ إلى تناول الكحول، ولست بحاجةٍ إلى المقامرة، وإطلاق السباب، والتوتّر، ويمكنني المغادرة بدون هذه الأشياء أيضًا ...

كان الفيلسوف ديوجين يأكل الخبز والعدس على العشاء. وقد رآه الفيلسوف أريستيبوس الذي عاش بشكلٍ مريح من خلال مديحه للملك. قال أريستيبوس: "لو تعلّمت أن تكون خاضعًا للملك فلن تضطر إلى العيش على العدس." قال ديوجين: "تعلّم أن تعيش على العدس ولن تضطر إلى الخضوع للملك."

تحذّرنا ملكة السلام من أنّ الشر موجود، وهو يريد استعبادنا، لكنّها تعلّمنا أنّه يمكننا محاربة قوّة الشر. "الشيطان يحاول أن يغلبكم. لا تسمحوا بذلك. حافظوا على الإيمان. صوموا وصلّوا." (16 تشرين الثاني 1981)

يساعدنا الصوم على أن نتحرّر ممّا كنّا نتمسّك به، وما كنّا نثق به، وما كُفِلنا به، ويعلّمنا أن نستسلم لله أكثر وأكثر. الأفعى، رمز الشر عاريةً ولا يمكننا محاربتها ونحن نرتدي ملابسنا، ومدمنون على الأشياء، على غرورنا، ولكن فقط عندما نتجرّد من هذا كلّه.

عندما نصوم نقول لا للعبوديّة الداخليّة والشيطان، ومن الناحية الآخرى، نقول نعم لله، نحن نقرّر للحريّة. "في هذا الوقت، أريدكم بنوعٍ خاصّ أن تتخلّوا عن الأشياء التي تعلّقتم بها وهي تلحق الأذى بحياتكم الروحيّة. لذلك، صغاري، قرّروا لله كليًّا، ولا تسمحوا لإبليس بأن يدخل إلى حياتكم من خلال هذه الأشياء التي تؤذيكم وتؤذي حياتكم الروحيّة." (25 شباط 1990)

هذه هي الطريقة التي نفهم بها أن الصوم ليس مجرّد جهادٍ ضد الشرّ، بل يساعد على نموّ إيماننا وثقتنا بالله. "أرغب في أن أشكُرَكُم من كلِّ قلبي على تخلِّياتِكُم في الصوم. أودّ أن أحُثَّكُم على الاستمرار في عيش الصوم بقلبٍ منفتح. بالصوم والتخلّي، صغاري، ستكونون أقوى في الإيمان." (25 آذار 2007) "أدعوكم في هذا الوقت إلى الصلاة والصوم والتخلّي، لتكونوا أقوى في الإيمان." (25 كانون الثاني 2021)

الصوم يساعدنا على التمييز بين ما نحتاج إليه وما لا نحتاج إليه، وما هو ضروري لحياتنا والجشع. ثمة أشياء نحتاج إليها للعيش: طعام، شراب، ملابس، سقف يأوينا، لكن لدينا فائض أيضًا. لدينا جوعٌ للحصول على المزيد. هذا الجوع يجعل الإنسان أعمى عمّا لديه بالفعل.

خلال إحدى رياضات الصوم والصلاة، كانت فتاة قد أدركت أن خزانة ملابسها مليئة بالملابس، وبعضها ارتدته مرّة أو مرّتين، لكنّها أرادت الحصول عليها كثيرًا لدرجة أنّها كانت تتشاجر بشكلٍ متكرّر مع والدَيها على اقتناء الملابس. عندما كانت تأكل الخبز والماء، انفتحت عيناها لتكتشف ما كان غير ضروريٍّ في حياتها حتّى تلك اللحظة.

تدعونا ملكة السلام للصوم، فتفتح عينينا على الكثير من الهبات التي يمنحنا إيّاها الله كلّ يوم. "في زمن النِعمة هذا، زمن الصوم، أدعوكم لتفتحوا قلوبَكم للعَطايا التي يرغب الله أن يُعطِيَكُم إيّاها. لا تكونوا مُنغلِقين ولكن، بالصلاة والتخلّي، قولوا 'نَعَمْ' لله وهو سيعطيكم بغزارة. كما تنفتِح الأرض في الربيع للزرع وتُثمِر بالمئات، كذلك أبوكم السماوي سيعطيكم بفيض." (25 شباط 2006)

اعتاد القدّيس ليوبولد بوغدان مانديتش أن يقول: "نحتاج إلى القليل لنحيا، القليل جدًّا". عندما أصوم، أُدرك: "لست بحاجةٍ إلى الكثير لحياتي. لا أحتاج إلى الكثير لأكون سعيداً." الصوم يعلّمنا التواضع وبساطة العيش، والحريّة أيضًا. "إنّ أكل الخبز والماء أفضل من أكل الفطيرة المتعبة." (أ. سولجنييتسين A. Solženjicin)

القديس بولس هو مثالٌ للرجل الذي يشعر بالرضا  على الرغم من المشاكل كلّها. "ولا أقول هذا عن حاجة، فقد تعلّمت أن أقنع بما أنا عليه، فأحسن العيش في الحرمان كما أحسن العيش في اليسر. ففي كلّ وقتٍ وفي كلّ شيءٍ تعلّمت أن أشبع وأجوع، أن أكون في اليسر والعسر، أستطيع كلّ شيءٍ بذاك الذي يقوّيني." (فل 4، 11-13).

إذا كان لدينا أكثر ممّا نحتاج إليه، فقد تكون حياتنا الروحيّة في خطر، حيث يمكننا التعوّد على ذلك وعدم رؤية ما لدينا والشعور بالحاجة إلى المزيد ينمو. هذا يجعلنا عميانًا عمّا هو مهمٌّ في حياتنا. بعد ذلك، لن نرى "الشيء المهم" الوحيد، وهو ما قاله يسوع لمرتا، و"الشيء الوحيد الذي يفتقر إليه" كما قال للشاب الغني.

الصوم هو مثل الاستئصال، نقش النحّات على صخرة ضخمة، وإزالة جميع الأجزاء غير الضروريّة حتّى يصل إلى الصورة التي يراها. الصوم هو الاستئصال، إزالة وترك جميع تلك الأشياء التي لا نحتاج إليها خلفنا، حتّى نكتشف الشيء الوحيد المهمّ والضروري في حياتنا. يصبح الصوم مريم التي جلست عند قدمَي يسوع واستمعت إليه.

عندما نصوم ، نتعرّف على الله ويُولد وعي فينا بعمق وعظمة محبّته لنا. "لهذا، صغاري، تسلّحوا بالصلاة والصوم لتكونوا واعين إلى أيّ مدى يحبّكم الله، ولتتمكّنوا من تتميم مشيئة الله." (25 تشرين الأوّل 2008)

بالإضافة إلى معرفة محبّة الله لنا، فإنّ الصوم يوقظ الجوع لله، والحاجة إليه وإلى مشيئته. يسوع هو مثالٌ على هذا الجوع والعطش للقرب من الآب وتنفيذ مشيئته: " قال لهم يسوع: "طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأن أتمّ عمله"."(يوحنا 4، 34)

تعلّمنا ملكة السلام أن الهدف من الصوم هو الاقتراب من يسوع. "اليوم أيضًا أدعوكم إلى الصوم والتخلّي. صغاري، تخلّوا عمّا يمنعكم من أن تكونوا أقرب إلى يسوع." (25 آذار 1998) "أرغب، صغاري، في أن أقرّبكم جميعًا من ابني يسوع، ولهذا، أنتم صلّوا وصوموا." (25 تموز 2004)

الغرض من الصوم هو الرغبة في الاقتراب من العريس والجوع إليه. "وكان تلاميذ يوحنا والفريسيّين صائمين، فأتاه بعض الناس وقالوا له: "لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيّين، وتلاميذك لا يصومون؟" فقال لهم يسوع: "أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم، لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيّامٌ فيها يُرفع العريس من بينهم. فعندئذ يصومون في ذلك اليوم." (مر 2، 18-20).

نحن بحاجة للصوم، لأنّ أشياء كثيرة تأخذ العريس بعيدًا عنّا، أشياء كثيرة تفصلنا عن يسوع والصلاة. نصوم لنرجع إليه، لنكون مشابهين له بقلوبنا.

            يعلّمنا يسوع أنّه من المهمّ ألّا يكون الصوم  فعلاً أمام الناس، ولكن كتعبير عن علاقتنا الشخصيّة مع الله. "وإذا صمتم فلا تعبسوا كالمرائين، فإنّهم يكلحون وجوههم، ليظهر للناس أنّهم صائمون. الحقّ أقول لكم إنّهم أخذوا أجرهم. أمّا أنت، فإذا صمت، فادهن رأسك واغسل وجهك، لكيلا يظهر للناس أنّك صائم، بل لأبيك الذي في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك." (متى 6 ، 16-18)

إذا صُمنا أمام الله الذي يرى في الخفاء، وليس أمام الناس، فإنّ صومنا سيكون عملاً للناس. سوف يوقظ فينا الحُبّ تجاه المحتاجين. إذا لم تكن فينا محبّة، فهذه هي العلامة الواضحة على حاجتنا إلى الاهتداء. عندما نصوم، نتغلب على نفسنا، ولكن ليس من أجل تحقيق النصر لنفسنا، وهذا ما من شأنه أن يعزّز غرورنا أكثر، ولكن لنستسلم أكثر للروح القدس  حتّى يرشدنا ويلهمنا، فيُشكّلنا.